
العنيدة – بسمة (قصة حقيقية) من واقع مجتمعنا الريفي البسيط
بقلم : سهام محمد راضي
كانت الشمس تغرب على أطراف القرية، وألوان الغروب تتلاشى على الأرض الموحلة بين بيوت الطين القديمة. في بيت بسيط، جلست بسمة في المربوعة، عيناها تلمعان بالحزن والإصرار في آنٍ واحد، وقد حاولت مرات ومرات أن تجد لنفسها مكانًا وسط ضغوط الحياة.
أمها دخلت الغرفة بغضب، وهي تحاول أن تخفي إحراجها أمام الجيران الذين قد يمرون بالشارع:
“بسمة! ليه كل مرة تعملي كده؟
ليه ما تسمعيش الكلام؟
إحنا مش عايزين حد يتكلم علينا أو عليكى!!!!
بسمة رفعت رأسها، بصوت هادئ لكنه ثابت:
“يا أمي… أنا مش بحب أكذب ولا أمثل حاجة مش أنا….. ربنا خلقني كده.”
الأم صرخت، وهي تكاد تمسك قلبها من الحرج:
“ربنا خلقك؟! ربنا خلقك كده؟! إنتِ عنيدة لدرجة الجنون! إحنا لازم نراعي منظرنا قدام الناس!”
الأب، الذي جلس على الأرض بجوارها، ينفض تراب اليوم عن ثيابه، أدار رأسه بعيدًا وهو يحاول كبح غضبه:
“بسمة… إحنا عايشين وسط الناس. مش كل حاجة تتعمل على مزاجك. لازم تفهمي إن المظاهر مهمة… واللي مش عارف يتعامل معاها بينكسر.”
بسمة همست لنفسها:
“يمكن… بس أنا مش هكسر نفسي عشان يرضوا عني أو عن شكلهم قدام الناس.”
كبرت بسمة وسط هذا الجو المشحون. كانت تحاول أن تجد مكانها في عالم لا يفهم صراحتها، نبل قلبها، ولا إحساسها بالآخرين. كل موقف صغير في حياتها، كل محاولة لإسعاد الآخرين، كان يُقابل بنقد أو إهانة، أحيانًا من الغرباء، وأحيانًا من أقرب الناس لها.
في المدرسة، كانت هي دائمًا الصوت المختلف: تساعد من يحتاج، تقول الحقيقة رغم غضب المعلمات، وتتدخل عندما ترى ظلمًا. بعض زملائها أحبوا شفافيتها ودفء قلبها، لكن البعض الآخر اعتبرها “غريبة” و”متمردة”.
في البيت، كانت المعارك اليومية لا تنتهي. أحيانًا بسبب ملابسها، أحيانًا بسبب اختياراتها البسيطة، وأحيانًا لأن قلبها الكبير لا يطيق رؤية ظلم أو حزن أي شخص حولها. وكل مرة، كانت تسمع صدى الجملة التي يرددها أهلها:
“إحنا مش عايزين حد يتكلم علينا أو عليك… المنظر قدام الناس أهم.”
كانت بسمة ترى الجيران ينظرون من فوق الأسطح، الأطفال يلعبون في الشارع، والنساء يهمسن عن كل شيء يحدث داخل البيوت. كل هذه المظاهر الاجتماعية كانت تزيد من شعورها بالضغط، لكنها لم تكسرها.
لياليها كانت الأكثر صعوبة. حين يسود الصمت في البيت والقرية كلها، كانت تتحدث إلى الله بصوت خافت:
“يا رب… ما عنديش حد غيرك. قوّيني عشان أقدر أكمّل.”
ومع مرور السنوات، تعلمت بسمة أن تعيش وحدها، تواجه الألم والصعاب بشجاعة، وتحمي قلبها من الطعنات التي تأتي من أقرب الناس لها. لم تعد تنتظر الاعتراف أو الموافقة من أحد، بل كانت تخلق قوتها من الداخل، من صدقها ونقاوتها.
في أحد الأيام، جلست بسمة أمام المرآة ونظرت إلى وجهها المتعب والمليء بالإصرار، وقالت:
“أنا مش عنيدة… أنا بنت رفضت يتسرق منها نفسها… وأنا هفضل على حالي مهما حصل.”
وهكذا، صارت بسمة رمزًا للصمود، للصدق، وللنقاء وسط عالم يحاول دائمًا تغييرها أو كسرها. لم تعد عنيدة كما يقولون… بل صارت البنت التي اختارت أن تكون نفسها، مهما كانت الظروف، ومهما حاول الجميع أن يفرضوا عليها غير ذلك.
هذه قصة حقيقية. وأوصي كل أب، وكل أم، وكل ابن وبنت: لا تغيّروا أنفسكم لترضوا أحد. كونوا صادقين مع ذاتكم، وحافظوا على نقاء قلوبكم وصدقكم، مهما كانت الضغوط والمظاهر الاجتماعية.