محمد الخفاجي يكتب العملية العسكرية الروسية عصفت بكل دول العالم
بقلم محمد الخفاجي
شكّلت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، منذ اندلاعها في 24 فبراير 2022، نقطة تحول مفصلية في النظام الدولي المعاصر، إذ تجاوزت آثارها الميدان العسكري لتصيب البنى الاقتصادية ومراكز القرار والتحالفات الاستراتيجية في مختلف أنحاء العالم. ولم تعد الأزمة مقتصرة على طرفين متنازعين بقدر ما أصبحت مسرحًا مفتوحًا لإعادة اختبار موازين القوة العالمية وإعادة صياغة منظومات الأمن والطاقة والتجارة.
أولًا: الارتدادات الاقتصادية العالمية
أحدثت العملية صدمة اقتصادية واسعة نتيجة الاضطرابات التي أصابت سلاسل الإمداد وأسواق المال والطاقة والغذاء. وارتفعت معدلات التضخم في العديد من الدول نتيجة زيادة تكاليف النقل والطاقة والمواد الخام، وهو ما دفع البنوك المركزية، ولا سيما في الاقتصادات الكبرى، إلى رفع أسعار الفائدة بوتيرة متسارعة لكبح التضخم. كما تعرّضت حركة التجارة الخارجية لتباطؤ ملحوظ، وانكمش النمو في عدد من الدول النامية التي تعتمد على الاستيراد، بما أبرز هشاشة الاقتصاد العالمي أمام الأزمات الجيوسياسية.
ثانيًا: تغيّر بنية النظام الدولي
دفعت العملية باتجاه إعادة تشكيل النظام الدولي من أحادية شبه مطلقة إلى تعددية أكثر وضوحًا. فقد شهد العالم اتساع فجوة الاستقطاب بين القوى الكبرى، وتزايدت مؤشرات الانتقال من “النظام الليبرالي” الذي قادته الولايات المتحدة إلى نظام أكثر صلابة في التنافس الاستراتيجي، تقوده أقطاب متعددة أبرزها الصين وروسيا. كما برزت من جديد لغة المصالح القومية الصلبة على حساب الخطاب الأممي، ما أدى إلى تراجع فعالية بعض المؤسسات الدولية أمام صعود منطق القوة وموازين الردع.
ثالثًا: ملف الطاقة والغذاء
أعادت الأزمة رسم خريطة الطاقة عالميًا، إذ اندفعت الدول الأوروبية إلى البحث عن بدائل عاجلة للغاز والنفط الروسيين، ما أوجد أسواقًا جديدة ورفع الطلب على مصادر بديلة، وعلى رأسها الغاز المسال القادم من الولايات المتحدة وشرق المتوسط. وفي موازاة ذلك، تضررت أسواق الحبوب والزيوت بسبب موقع روسيا وأوكرانيا في قمة الدول المصدّرة عالميًا، وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعار الغذاء وتهديد الأمن الغذائي في مناطق واسعة من الشرق الأوسط وإفريقيا. وقد بيّنت هذه الأزمة مدى حساسية العالم لاعتماده المفرط على موارد محددة في جغرافيا ملتهبة.
رابعًا: التحالفات والأمن الدولي
على المستوى الأمني، دفعت العملية حلف شمال الأطلسي إلى توسيع دوره وتعزيز انتشاره شرقًا، مع زيادة الإنفاق العسكري الأوروبي بصورة غير مسبوقة منذ نهاية الحرب الباردة. في المقابل، عمّقت روسيا من تعاونها العسكري والاقتصادي مع دول آسيوية، ما ساهم في اتساع ظاهرة “تحالفات الضرورة” بدل “تحالفات القيم”. كما عادت سباقات التسلح وتوازنات الردع إلى الواجهة، فيما تصاعد الحديث عن ميلاد حرب باردة جديدة، وإنْ بصيغة مختلفة تتداخل فيها الجغرافيا السياسية مع التكنولوجيا والاقتصاد والطاقة.
خاتمة
لقد أثبتت العملية العسكرية الروسية أن العالم أصبح أكثر ترابطًا وأشد هشاشة أمام الأزمات، وأن التحولات الكبرى لم تعد محصورة في المجالين العسكري أو السياسي، بل تمتد لتصيب الاقتصاد والمجتمع والطاقة والغذاء والأمن الدولي في آن واحد. ومن ثم، فإن تداعيات الحرب مرشحة للاستمرار لسنوات، في ظل نظام عالمي يعاد تشكيله على وقع صراع الإرادات ومصالح القوى الكبرى، بينما تظل الدول النامية الأكثر تأثرًا بنتائج هذا التحول العنيف في موازين العالم.