غيابك وجعي... قراءة نقدية في قصيدة الشاعرة ثناء شلش بقلم: حسن غريب أحمد (ناقد – روائي – شاعر) مدخل: الشعر حين يكتب وجعه الإنساني: في قصيدتها الفصحى "غيابك وجعي" تفتح الشاعرة ثناء شلش بابًا واسعًا للبوح الإنساني، وهي تتكئ على تجربة الفقد الكبرى: رحيل الأم. ذلك الفقد الذي لا يترك في القلب سوى رعشة الحنين وارتجافة الألم، فتكتب الشاعرة من منطقةٍ لا تُزيَّن بالبلاغة بقدر ما تُضاء بصدق الوجدان. إنها قصيدة تُصاغ من دمعٍ يقطر على الورق، وتُعيد للأم حضورها الرمزي في الروح والذاكرة. البوح والنداء... بنية القصيدة العاطفية منذ المطلع: لِحِضنِ الأُمِّ يَقتُلُني حَنيني لِتَسمَعَ شَكوَتي يَخبو أَنيني تبدأ الشاعرة من ذروة الانفعال العاطفي، حيث يختلط الحنين بالموت الرمزي، فيصبح الشوق قاتلاً، والأنين يخبو أمام الصمت الأبدي. تكرّر الشاعرة النداء الحنون: "أيا أمّاه"، لا لتستدعي الماضي فقط، بل لتقاوم الغياب بالذكرى، ولتجعل من الصوت وسيلة للوصال الروحي بين الأرض والسماء. اللغة والصورة الشعرية: لغة القصيدة جزلة، عذبة، لا تعرف الغموض، لكنها تفيض رهافةً وعمقًا. في قولها: ومن للشوك يمحو من دروبي ومن يَجلو الأسى فوق الجبينِ يتجلّى الحنان الأمومي كقوة تطهيرية تزيح الألم وتمسح الوجع، فالأم هنا ليست مجرّد إنسانة، بل رمز كوني للرحمة والطمأنينة. هكذا تتحوّل اللغة عند ثناء شلش من أداة وصف إلى وسيلة تضرّع وجداني، حيث تنصهر المشاعر في إيقاعٍ من الدفء والبكاء الصامت. الإيقاع والموسيقى الداخلية: اختارت الشاعرة بحر الكامل، بوقعه المديد الذي يليق بمقام الرثاء، وجعلت القافية المكسورة بالنون والياء (ـيني) تفيض حزناً وشجناً. إنها قافية تنزف لحنًا داخليًا يعكس انكسار الروح وتوقها للغائب. ولم يكن الإيقاع هنا مجرد زينة عروضية، بل هو نبض القلب نفسه في مواجهة الخسارة، مما أكسب النص صدقاً إيقاعيًا يوازي صدقه الشعوري. الأم بين الذاكرة والقداسة: تقدّم الشاعرة صورة الأم عبر ثلاث مستويات متتابعة: 1. الأم الملاذ – "كنتِ إذا جزعتُ تُطمئنيني" 2. الأم القوة – "وكنتِ الصبرَ إن حلّت خطوبٌ" 3. الأم القداسة – "فجُدْ بالعفوِ وازرُقها إلهي..." وهكذا تتدرّج القصيدة من الحضور الأرضي إلى الحضور السماوي، من صوت الحنان إلى صوت الدعاء. في الختام، تُسلم الشاعرة أمّها إلى رحاب الله في تسليمٍ إيماني مفعم باليقين: فَجُدْ بِالعَفوِ وَارزُقها إِلَهي بِصُحبَةِ سَيِّدي الهادِي الأَمينِ إنها خاتمة تُعيد للروح توازنها بعد عاصفة الألم، وتُحوّل الحزن إلى طهرٍ ورضا. رؤية نقدية شاملة نقاط القوة: صدق التجربة الإنسانية وعمق العاطفة. وحدة الموضوع وانسجام البنية الإيقاعية. الصور الموحية التي خدمت الفكرة دون إفراط بلاغي. الإيمان الصافي الذي ختم النص بروح التسليم. ملاحظات فنية طفيفة: قد يفيد تنويع التراكيب أحيانًا لتجنّب التكرار اللفظي، لكن هذا التكرار يخدم الإيقاع المرثي العام ولا ينتقص من جمال النص. وفي نهاية المطاف : في قصيدتها "غيابك وجعي"، لا تكتب ثناء شلش عن الأم فقط، بل عن الإنسان حين يفقد جذره الأول ومأواه الأخير. إنها قصيدة لا تُقرأ بالعين فقط، بل تُحس بالقلب، لأنها تنتمي إلى منطقة الصدق التي لا يصلها إلا الشعر الصافي. ومن هنا تأتي قيمتها الفنية والوجدانية، بوصفها أنشودة وفاءٍ وشهادة حبٍ خالدة للأم، الأم التي تظل – وإن غابت – وطنًا في الذاكرة وسماءً في القلب.