لم تكن الغربة يومًا حقائب تُحزم، أو طائرات تُقلع من أرضٍ إلى أخرى.
الغربة أعمق من ذلك بكثير… إنها حين تسكن وطنك ولا يسكنك، حين تكون محاطًا بالناس وتشعر أنك وحدك، حين يتحدث الجميع لغةً لا تشبه قلبك، فتصمت كي لا تبدو غريبًا أكثر.
نحن نعيش في زمنٍ امتلأت فيه البيوت بالسكان، لكن فَرغت الأرواح من السكن.
زمنٍ صار فيه القرب مجرّد تواصلٍ رقمي، والعلاقات تُقاس بعدد الرسائل، لا بعمق المشاعر.
زمنٍ يُشبه المدن المزدحمة… صاخب من الخارج، لكنه موحش في الداخل.
كم من إنسانٍ يجلس وسط عائلته، يشعر أنه زائر مؤقت في حياته الخاصة؟
كم من قلبٍ يحاور نفسه ليلًا لأنه لم يجد من يصغي؟
كم من روحٍ تبتسم خوفًا من أن يُقال عنها حزينة، بينما في داخلها مئات الأسئلة التي لا تجد طريقها إلى الكلام؟
صرنا نخاف من البوح، لأن الصدق أصبح تهمة، والمشاعر تُفسَّر خطأ، والوجع يُقابَل بالصمت أو اللامبالاة.
صرنا نحتمي بالصمت أكثر مما نحتمي بالناس.
نضحك كي نخفي تعبنا، ونتظاهر بالقوة كي لا نُتهم بالضعف.
حتى الكلمات البسيطة مثل “اشتقت لك” و”أنا محتاجك” أصبحت ثقيلة على اللسان، وكأنها إعلان عن الهزيمة.
الغربة ليست عن المكان، بل عن الإحساس بالدفء.
هي أن تشعر أن الجميع يتحدث بلغة لا تشبهك، أن تبحث عن فهمٍ بسيط وسط ضجيجٍ من الأحكام والنصائح، أن تشتاق لحوارٍ صادق لا يُحاكمك ولا يُقاطعك.
نحن أبناء الغُربة داخل الوطن… نعيش بين الجدران نفسها، لكننا لم نعد ننتمي إليها.
نمشي في شوارعٍ تعرف خطواتنا، لكن لا أحد فيها يعرفنا.
نكتب كثيرًا لعل الكلمة تلمس أحدهم، نُشارك وجوهنا على الشاشات، لعل أحدًا يرى ما وراء الابتسامة.
الغربة لا تقتصر على من سافر، بل تُقيم في كل قلبٍ لم يجد من يطمئنه، في كل نفسٍ أُرهقت من التظاهر، في كل عينٍ تفتش عن نظرة دفءٍ وسط وجوهٍ باردة.
ربما لهذا السبب صار الحنين حالةً جماعية، نتنفسها دون أن ندري، نبحث عنها في الموسيقى، في الذكريات، في تفاصيل الماضي الذي كان أبسط وأكثر صدقًا.
لكن، رغم كل هذا الوجع، تظل هناك مساحة صغيرة لا تصلها الغربة…
مساحة يسكنها الأمل.
فالغربة ليست النهاية، بل دعوة لإعادة اكتشاف أنفسنا، لفهم معنى الانتماء الحقيقي.
أن نبحث عن أوطانٍ صغيرة داخل القلوب، لا على الخرائط، عن الدفء في إنسانٍ واحدٍ يفهمنا، لا في مدينةٍ كاملة لا تُصغي.
وفي النهاية، تبقى الغُربة صوتًا خافتًا يقول لنا:
“ابحث عن ذاتك قبل أن تبحث عن مكانك.”
فالوطن ليس حيث نعيش، بل حيث نشعر أننا بخير.
وكل من وجد قلبًا صادقًا يحتضنه كما هو، فقد وجد وطنه، ولو كان في أقصى الغياب.
—
✍️ فاطمة فوزي
ربما نكتب كي نحيا مرتين… مرة بالحقيقة، ومرة بالحلم.