
الفصل الثامن عشر: حكمة الكبار
كتب ،،على صابر
على الأريكة الخشبية العتيقة التي كانت جزءًا من ديكور البقالة القديم، جلس محمود ووردة. الأريكة، مثل علاقتهما، اهترأت وتآكلت جوانبها، لكنها ظلت ثابتة ومريحة، حاملةً بصمات سنوات طويلة من الجلوس وتبادل الحديث. كان وقت الغروب، ولون السماء البرتقالي الداكن يصب ضوءًا دافئًا ومغبرًا على واجهة البقالة التي لا تزال تحمل اسم “محمود وأولاده” بطلاء نصف باهت.
نظر محمود إلى واجهة المحل، ثم التفت إلى وردة، يرفع حاجبيه بحنين.
”تخيلي يا وردة… هذه الزاوية هنا، خلف صندوق الكاش، هي التي تشاجرنا فيها بسبب ثمن علبة السردين التي أصررتِ أنها باهظة الثمن، قبل ثلاثين سنة،” قال محمود بابتسامة خفيفة.
ضحكت وردة ضحكة رقيقة خرجت من أعماق صدرها، وهي تعدّل الشال الخفيف على كتفيها. “وهل نسيت أنني كنت محقة؟ ما زلت أتذكر نظرتك المصدومة حين عرفت أنني أعدت العلبة في اليوم التالي بعدما عرفت السعر الحقيقي من بقالة الحارة الثانية! يا لك من تاجر مشاكس!”
امتدت يد محمود بهدوء لتمسك يدها التي كانت ترتاح بجانبه. كانت يداها ناعمة رغم العمل، لكنها تحمل تجاعيد الزمن التي يراها أجمل من أي نقش.
”انظري إلى الحارة يا وردة، تغيرت،” قال محمود، يشير بكتفه نحو الشارع. “الرصيف صار أوسع، وأشجار الزينة الجديدة نمت. لكن الأهم من كل هذا… الناس هم من تغيروا.”
مر في بال وردة شريط ذكريات سريع؛ كيف كانت الحارة في بدايتهما تشهد الهمز واللمز على قصتهما الخارجة عن المألوف، ثم كيف بدأت النظرات تتغير مع مرور السنوات، وكيف أصبحا هما مرجع الحارة في كل شاردة وواردة.
”أتذكرين جارتنا أم علي؟ عندما كانت تصر على طلاق ابنتها؟” سألت وردة، ونبرة صوتها تحمل نغمة درس قديم. “كنا نحن الاثنان من جلس مع الزوجين لساعات، لم نحكم ولم نأمر، فقط استمعنا ونصحناهما بالصبر وعدم ترك الغضب يقود القرارات.”
”وهذا هو مربط الفرس يا عزيزتي. كان الجميع ينتظرون أن نفشل، أن تنهار القصة الغريبة،” أجاب محمود، وهو يشد على يدها. “لكننا كنا نعيشها بالحكمة التي تعلمناها من قسوة الحياة قبل أن نلتقي. الثقة المتبادلة لم تكن كلمات، كانت أفعالًا. لم أشك يومًا في قرار اتخذتِه، وأنتِ لم تشكي يومًا في صدقي.”
هذا السلام الذي سكن قلبيهما لم يكن صدفة، بل كان ثمرة نضال صامت. كانت القوة الحقيقية لقصتهما تكمن في قدرتهما على احتواء عواصف الآخر بدلًا من الانخراط فيها. لاحظا تأثيرهما بوضوح:
أبناؤهما: لم يروا في بيتهما صراعًا على السلطة، بل شراكة متساوية، الأمر الذي انعكس على زيجاتهم الهادئة والناجحة.
شباب الحارة: عندما تقع مشاجرة، أصبحوا يذهبون إلى “بيت وردة ومحمود” قبل الذهاب إلى قسم الشرطة، ثقةً بحياديتهما وحكمتهما الهادئة. كان درسهما للجميع: أن الحب الحقيقي ليس نارًا تحرق، بل دفء يحيط ويرتق.